إعلان

الإعلام المرتفع النبرة.. بين سطوة الأداء وغياب جودة الرسالة

مصطفى صلاح

الإعلام المرتفع النبرة.. بين سطوة الأداء وغياب جودة الرسالة

مصطفى صلاح
07:00 م الخميس 18 ديسمبر 2025

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تابعنا على

تشهد الساحة الإعلامية حضورًا لافتًا لأسلوب يعتمد على ارتفاع النبرة أكثر مما يعتمد على وضوح المعنى، ويقدّم الانفعال بوصفه دلالة على القوة، بينما يتراجع الاهتمام بجوهر ما يُقدَّم للمشاهد. في هذا السياق، لا تصبح المشكلة في الصوت ذاته، بل في كونه يتحول إلى بديل عن المعلومة، وإلى ستار يخفي ضعف الإعداد وغياب الرسالة المتماسكة.

الإعلام في جوهره رسالة قبل أن يكون حضورًا، ومضمون قبل أن يكون أداءً. وحين تختل هذه المعادلة، ويتقدم الأداء على حساب المحتوى، تفقد الرسالة قيمتها، حتى وإن بدت حاضرة بقوة على الشاشة. فالمتلقي لا يحتاج إلى من يرفع صوته بقدر ما يحتاج إلى من يحترم عقله، ويقدّم له معرفة واضحة، وسياقًا مفهومًا، ورؤية تساعده على الفهم لا على الانفعال.

في كثير من الحالات، يتحول الإعلامي من ناقل للمعلومة إلى محور للمشهد، ومن محلل إلى طرف دائم التوتر. تكثر المقاطعة، وتقل الأسئلة الجادة، ويغيب التحقق، لأن الهدف يصبح صناعة حالة انفعالية سريعة تضمن التفاعل، لا بناء رسالة إعلامية ذات قيمة. عند هذه النقطة، لا يُقاس النجاح بجودة ما قُدِّم، بل بمدى ارتفاع النبرة واتساع دائرة الجدل.

المشكلة الحقيقية أن هذا الأسلوب لا يسيء فقط إلى المهنة، بل إلى المتلقي نفسه. فالمشاهد الذي يتلقى مادة إعلامية بلا مضمون واضح، ومع تكرار التجربة، يفقد ثقته في التحليل الهادئ، ويعتاد على التوتر بوصفه الشكل الطبيعي لتناول القضايا العامة. ومع الوقت، تصبح الحدة معيارًا للصدق، لا دقة المعلومة ولا سلامة المنطق.

إن جودة الرسالة الإعلامية لا تُقاس بقوة الصوت، بل بوضوح الفكرة، ودقة المعلومات، وقدرة التناول على ربط الحدث بسياقه الزمني والسياسي والاجتماعي. الرسالة الجيدة تشرح قبل أن تحكم، وتعرض قبل أن تنحاز، وتفتح المجال للتفكير بدلاً من دفع المتلقي إلى موقف جاهز. أما حين تُختزل القضايا المعقدة في عبارات قاطعة، فإن النتيجة تكون تضليلًا غير مباشر، حتى وإن غابت النية.

الاعتماد المفرط على الأداء المرتفع يفرغ المضمون من قيمته، ويحوّل القضايا العامة إلى مشاهد صدام لفظي لا تنتج معرفة. تختفي الأرقام، وتغيب المصادر، ويُهمَّش السياق، لأن التركيز ينصب على لحظة الانفعال لا على بناء فهم مستدام. وهنا تصبح الرسالة الإعلامية قصيرة العمر، تنتهي بانتهاء الحلقة، ولا تترك أثرًا معرفيًا يمكن البناء عليه.

الأخطر أن هذا النمط يعيد تشكيل الذائقة العامة، فيدفع الجمهور إلى النفور من الطرح الرصين، ويجعل الهدوء موضع شك، والتفكير موضع اتهام. ومع هذا التحول، تخسر الساحة الإعلامية أحد أهم أدوارها: أن تكون مساحة للفهم المشترك، لا ساحة للاستقطاب الدائم.

جودة الرسالة الإعلامية تعني احترام التخصص، والتمييز بين الرأي والمعلومة، والالتزام بالتحقق، وتقديم الخلفيات الضرورية لفهم الحدث. تعني أيضًا اختيار اللغة المناسبة، والنبرة المتزنة، وتوقيت الطرح، بحيث يكون الهدف هو الإيضاح لا الإثارة، والتنوير لا الاستفزاز.

الإعلام القادر على الاستمرار هو ذلك الذي يراكم الثقة، لا الذي يستهلكها. الثقة لا تُبنى بالصوت المرتفع، بل بالاتساق، والدقة، والقدرة على الاعتراف بالخطأ عند وقوعه. أما الرسالة التي تقوم على الانفعال وحده، فسرعان ما تفقد تأثيرها، لأن ما لا يستند إلى معرفة لا يصمد طويلًا.

إن الحاجة اليوم ليست إلى مزيد من الضجيج، بل إلى مزيد من الرسائل الواضحة، العميقة، والمسؤولة. رسائل تدرك أن التأثير الحقيقي لا يأتي من إثارة اللحظة، بل من بناء وعي قادر على التمييز والفهم. فالإعلام، في النهاية، ليس ساحة لإثبات الحضور، بل أداة لصناعة المعنى.

وما لا يُقدَّم بجودة مهنية حقيقية، يظل أثره مؤقتًا، مهما بدا حضوره عاليًا.

إعلان

إعلان